كوارث الثأر علي مصر.


كارثة الثـأر في مصر قضية طالما ظلت جاثمة على صدر محافظات صعيد مصر التي تحيا ليل ونهار تؤججها ريح الأصالة، وتذكيها رائحة التمسك بالعقيدة، فهو دائماً ما يعكر صفو هذه الحياة الوادعة بأصوات الرصاص التي تشق سكون الليل ونواح وعويل يملأ الأفق.
فالثأر سرطان مزمن في شريان الوطن، ينتج عنه خسائر مادية وبشرية جسيمة تفوق قدرة وإمكانيات أجهزة الدولة المختلفة عند التعامل معها.
إن الثأر معناه المطالبة بدم القتيل والطلب بثأره، وهو الوجه الآخر لهيبة العائلة وكرامتها داخل مجتمعها، وأن العائلة بجميع أفرادها مسئولة عن الأخذ بالثأر، فهو يحدث لأسباب قد تكون شخصية أو جماعية، لذلك لا يوجد سبب واحد يمكن ربطه بكل حوادث الثأر لكنها إجمالاً تكون بين عائلات وبمجرد بدايتها لا يمكن التنبؤ بما سوف تنتهي إليه، ومتى؟.
وأن الثأر قد يشتعل نتيجة علاقة بين شاب وفتاة من عائلتين لا تنال رضي الكبار فتؤدى إلى معارك دموية إنتقاماً لشرف العائلة.
حتى الخلافات العادية قد تتسبب في معارك كبيرة أيضاً بين العائلات، منها على سبيل المثال أسبقية الري أو المرور بين سيارتين، أو شجار بين أطفال في القرية أو الخلافات العادية بين الجيران، كما أن العائلات التي بينها نسب أو علاقات مصاهرة تكون من أكثر الحالات المعرضة لحوادث الثأر.
وفى أحيان أخرى تؤدى حوادث القتل الخطأ إلى ثأر عائلي فمثلا يصدم شخص بسيارته أحد أفراد عائله أخرى وهذا حادث يحدث عشرات المرات يومياً فيتحول إلى ثأر أو إطلاق نيران في زفاف للإحتفال ويقتل واحداً، فيتحول إلى ثأر أو سبب أدهى، وهو وجود شخص من عائله ثالثة ويقتل بالخطأ في ثأر ليس له ذنب فيه من بعيد أو قريب فتتحول العائلة الثالثة للثأر.
وهكذا تتوارث العائلات الثأر حتى وإن كان ليس لهم دوراً فيه ولكن القدر وضعهم في طريق الثأر، لذلك يمثل الثأر هماً أمنياً مخيفاً لدى كل فرد من أفراد المجتمع وهاجس قلق للدولة.
فالمواطنون يعيشون في حالة ذعر وخوف وعدم إستقرار دائمين نتيجة جرائم القتل غير المشروعة (الثأر) التي يتوارثها الأبناء عن آبائهم جيلاً بعد جيل كما أدت إلى إنقطاع الناس عن أعمالهم، والأطفال عن مدارسهم، وضياع أسر بأكملها نتيجة هروب عائلهم أو إختفائه وما يترتب على ذلك من عدم تربية الأبناء.
ومن هنا يلزم هذا العرف القاسي وجود السلاح الذي يعتبر في منزلة الولد عند الصعيدي، كما يوجد في الصعيد مجموعة من التقاليد الراسخة والمتعلقة ما يسمي بالقودة وتعني أن القاتل قد اقتيد لأهل القتيل ليفعلوا به ما شاءوا.
وطقوس القودة في معظم قرى الصعيد متشابهة، وبرغم تشابه ظروف القودة في معظم قري الصعيد إلا انه تختلف الآن عن فترة سابقة حيث ظهرت في مصر طريقة جديدة للقودة منذ الثمانينيات، وهو ما ذكره العمدة غلاب:
«القودة تعني الحياة التي تأخذ شكل الأمل والإستمرار في الرضوخ لإحكام من يقبل الصلح وهى هيئة الموت».
وهناك أيضاً في نفس الموضوع "الجودة" التي تكون بتعطيش الجيم، وهي طريقة الموت الخطأ حين لا يستدل على القاتل الحقيقي في مشاجرة لذلك على العائلة المعتدية أن تقدم شخصاً يرتضى أن يحمل ( الجودة ) ويسمى الحامل للكفن جودة لأنه أجاد بنفسه لردم الدم بين العائلتين.
أن القودة اليوم تختلف في طريقتها عن فترة سابقة وإن الطريقة الحالية تسمي المدرسة الرابعة للقودة وكانت المدرسة الأولي تسمي مدرسة العبابدة، نسبة إلى قبائل العبابدة وهى مدرسة تجبر القاتل على أن يحمل القودة وهو عريان وأن يكون ملفوفاً بالكفن وأن يكون حافي القدمين حليق الرأس وأن يكون مجروراً من رقبته.
وهذه المدرسة كان لها شيوع في صعيد مصر من الأربعينيات حتى نهاية الستينيات من القرن الماضي، وهى كانت مدرسة قاسية لا تراعى الوضع الإنساني للقاتل بل تجبره على أن يسير مسافة 3 كيلو متر مشياً على الأقدام حتى وصوله إلى ديوان بيت القتيل وهى مدرسة تجبر القاتل على التخلي عن قبيلته الإنضمام إلى قبيلة القتيل نظراً لأنه هو المتسبب في إخلاء القبيلة من ولدها لذلك عليه أن يملأ فراغ القتيل بل يجبرونه على الزواج منهم، ويعطونه ما يتعايش منه ويصبح هذا الشخص ملكهم وإذا مات يدفنونه في مقابرهم ويقيمون له سرادق العزاء بل إذا قٌتل يؤخذ بثأره.
إما المدرسة الثانية وهى مدرسة «إقليم أدفو بأسوان»، في أقصي جنوب مصر وبعض قرى قنا الجنوبية، وهى مدرسة تجبر القاتل على أن يرتدى الجلباب الأسود القصير أي فوق الركبة ويكون حافي القدمين حليق الرأس مجرور الرقبة، وهذه المدرسة لا يوجد فيها زواج للقاتل من أهل القتيل نظراً لأنها مدرسة أخذت حيز مكاني لقبائل لا تسمح لبناتها للزواج من غريب ولكن توجد فيها إقامة للقاتل عند أهل القتيل ولكن دون اختلاط بهم إما المدرسة الثالثة في مدرسة «الأسرة الدندراوية».
وهى التي أرساها الأمير العباس الدندراوى وهى مدرسة تُجبر القاتل على أن يقدم القودة وهو مرتدي الجلباب الأسود المقلوب وأن يكون مجروراً من رقبته وحافي القدمين، وهذه المدرسة تقوم بأعدال الجلباب الأسود للقاتل حين يقف أمام أهل القتيل، وفلسفة هذه المدرسة تقوم على أساس أن أعدال الجلباب للقاتل نوع من أعدال هيئته وحاله من الممات الذي كان ينتظره إلى الحياة والأمل في البقاء في الدنيا.
والمدرسة الأخيرة التي أصبحت أكثر إحترام للوضعية الإنسانية لمظهر القاتل الحسى الظاهر للعيان وهو يحمل القودة «قطعة القماش الكفن»، بدلا من مظهره الذي لا يحترم إنسانية من يقدم كفنه في المدارس القديمة.
فيوجد في محافظات صعيد مصر عدد كبير من قـراها ومراكزها إنتشرت الفوضى بها، نتيجة شبح الثأر مثل ما حدث في مدينة أسوان لؤلؤة مصر السمراء، فهي كارثة بكل المقاييس بين قبيلتي بني «هلال والدابودية»، والتي أستمرت الأحداث فيها لعدة أيام، وتم تبادل إطلاق الرصاص الحي بينهما، وأدت إلى مذبحة ومقتل 24 شخصاً وإصابة 32 شخصاً، وإشتعال النيران في المنازل التي يمتلكها العائلتان، نتيجة قيام أحد الشباب من قبيلة بنى هلال بالكتابة على جدران مدرسة بمنطقة السيل بعبارات مسيئة للعائلة الأخرى.
وتبادل حينها الطرفان خلالها التراشق بالحجارة، ثم عاود بعض أفراد من عائلة الهلاليين بكتابة عبارات سب على جدران جمعية دابود النوبة ''محل إجتماعات عائلة ؛النوبيين''ونشبت المشاجرة مرة أخرى وأطلق أفراد من عائلة الهلاليين نيران أسلحتهما الآلية، وعليه هاجمت عائلة ''دابود'' بعض المنازل التابعة لعائلة الهلايل وأشعلوا فيها الحرائق وأطلقوا النيران على من فيها وتعدوا عليهم بالذبح بالأسلحة البيضاء.
كذلك يوجد في محافظة قنا قرية تقع على بعد 16 كم من مدينة قنا هي في حـالـة حرب مستمـرة بلا هدنة بين نجوعها، لا يسمع أطفالها إلا أصوات البارود وعويـل النساء، وتسـمـى "قرية الحجيرات" وتعرف بقرية "النار والدم" بسبب دموية الأحداث التي تشهدها بصفة متكررة، والتي يبلغ تعدادها السكاني حوالي 40 ألف نسمة يعيشون داخل 6 نجوع وعلي مساحة 1500 فدان، وهي من أخصب الأراضي الزراعية بقنا.
ولعل ما ساهم في إنتشار جرائم القتل طبيعة القرية الجبلية التي تصبح مأوي للخارجين علي القانون والهاربين من تنفيذ الأحكام القضائية.
إذ تحول معها معظم النساء إلي أرامل والأطفال أيتام وبلغت نسبة الأرامل نتيجة حوادث الثأر ما يقرب من 90% من بين المتزوجات.
إن عادة الثأر جاءت من الجذور القبلية التي دخلت مصر من الجزيرة العربية مع الفتح الإسلامي لمصر، ولكن عادة الثأر أختفت في معظم أقاليم مصر، وذلك نتيجة الإتصال الحضاري بالمجتمعات الأخرى، وأن هذه العادة ظلت مستقرة في محافظتين رئيستين هما "قنا وسوهاج"، لأنهما معزولتان جغرافياً وإجتماعياً عن غيرهما بالإضافة إلى الفقر.
أن الإنسان هناك أسير العادات والتقاليد التي تحددها القبيلة أو العائلة التي ينتمي إليها، وبالتالي فهو مطالب بالتضحية بنفسه من أجل الدفاع عن هذه العادات والتقاليد، وإلا كان مصيره الموت الإجتماعي الذي يصل إلى درجة العار، فأما أن يعيش بروح القبيلة وأما أن يهجر المنطقة وينسلخ عن جذوره.
إن الثأر ظاهرة سلبية وبحاجة إلى تضافر جهود الجميع ومواصلة بذل تلك الجهود التي حققت ثمارها ونتائجها الإيجابية في مجالات البناء والتنمية، وترسيخ الأمن، والطمأنينة، ونشر الوعي، والثقافة.
لذلك قاد محافظ قنا الثورة على النزاعات الثأرية وسعيه الدؤوب في إيجاد الحلول لها بمساعدة جهود رجال الأمن ولجان المصالحات ورجال الخير بالمحافظة والبعد عن المعارك الجانبي.
أن ظاهرة الثأر من العادات السيئة، ومن بقايا الجاهلية التي كانت منتشرة في الناس قبل الإسلام، فلما أشرق الإسلام بتعاليمه السمحة، قضى على هذه الظاهرة وشرع القصاص، حيث يطبق بالعدل، ويقوم به ولي الأمر، وليس آحاد الناس حتى لا تكون الحياة فوضى.
وفي النهاية يظل الثـأر شرخ متجدد في جدار الوطن، لذا لابد من التصدي لهذه العادة الإجتماعية المتخلفة التي تهدر القانون وتنافى قيم التحضر والإنسانية من خلال تضافر كل الجهود المخلصة من الحكومة والجامعات المختلفة، والقضاء على الأسباب التي أدت إلى انتشارها.
كما لابد من أن نهتم بالتعليم الجاد وخلق فرص عمل وتنمية المجتمعات المحلية وتطوير الخطاب الديني بشكل فعال ومشاركة الإعلام مشاركة فعالة في القضاء على هذه الظاهرة، وضرورة القضاء على تجارة السلاح، ففي غياب هذه التجارة تنحصر هذه الظاهرة، كما لابد من وجود أمني مكثف لسرعة القضاء على أي خلاف ينشب بين العائلات حتى لا تتطور الأمور إلى القتل، لأن أغلب المصالحات تنجح بنسبه كبيرة.
وهناك حالات تفشل فيها المصالحة بسبب تجاهل اللجان للمرأة.
لأن المرأة هي السبب الرئيسي في إنتشار الظاهرة، لذلك من الضروري التركيز علي أهمية تعليم المرأة، حيث أن تعليمها بمثابة تعليم أسرة بل جيل بالكامل وخاصة أن المرأة في حالة أميتها تلعب دورا كبيرا في أثارة حمية الرجال في الإسراع بالأخذ بالثأر.
تترك جرائم الثأر بشكل عام آثاراً واضحة على كل من الجاني والضحية والمجتمع، ولابد أن تأخذ أية دراسة علمية هذا المثلث في إعتبارها، حيث إن إفتقاد ضلع منه يفقد التوازن للبحث في علم اجتماع الجريمة، كما أن مشكلة تحديد الآثار الإقتصادية والإجتماعية لجريمة القتل الثأري الجماعي بقرية بيت علام تعد من المشاكل المعقدة نظراً لتعدد أبعادها وتداخلها مع بعضها البعض.
فهناك آثار مباشرة وهى تلك الأضرار التي تقع على كل من الجناة وأسرهم، وعلى أسر الضحايا، وهناك الآثار غير المباشرة وهى تلك الأضرار على المجتمع بشكل عام والتي تبدوا في نفقات الدولة على مؤسسات العدالة الإجتماعية.
ولاشك أن كل ذلك يترتب عليه آثار سلبية على حالة الإنتاج في المجتمع، فجرائم الثأر تبدد موارد التنمية الإقتصادية في المجتمع بشكل عام حيث النفقات الباهظة التي تستهلكها عمليات الوقاية والمكافحة والمؤسسات التي تنشأ من أجل ذلك، وهذه النفقات غير إنتاجية كان من الممكن استثمارها في عمليات الإنتاج لتعود على المجتمع بالفائدة، فحدوث جريمة ثأر تمثل عبئا على الدخل القومي من هذه الناحية. -تزايد مشاعر الخوف من الجريمة لدى جميع أفراد عائلة الجناة، وإحساسهم بعدم الأمان وتقييد حرياتهم الأمر الذى أدى إلى انسحابهم من كافة مظاهر الحياة الإجتماعية والإقتصادية.
تزايد مشاعر الحزن والكآبة لدى جميع أفراد عائلات الضحايا الأمر الذى أدى إلى إصابة بعض الآباء والأمهات بالجنون والمرض.
ولقد خلفت هذه الجريمة آثاراً إقتصادية وإجتماعية ونفسية مدمرة، على كل من عائلة الجناة وعائلات الضحايا بالإضافة إلى المجتمع المحلى، وعلى الرغم من أن هذه الجريمة تعد بمثابة معوق وظيفي أدت إلى خلق العديد من المشكلات الإجتماعية الكبرى.
إلا أنها أدت إلى إدراك المجتمع بكافة فئاته ومؤسساته بمدى ما يجلبه الثأر من مآس وويلات الأمر الذى أدى إلى تضافر المجتمع بكافة مؤسساته في سبيل مواجهة مثل هذه الجرائم، من خلال تحديد مواطن التوترات الضاربة جذورها في بعض أنساقه ونظمه نتيجة التغيرات التي طرأت على بعض عناصره دون البعض الآخر، ومن بين الآثار الإيجابية التي ترتبت على هذه الجريمة، لجوء غالبية العائلات المتخاصمة في جميع أنحاء الجمهورية إلى منطق الحوار والمناقشة بدلا من منطق النزاع والمشاحنة فزادت المصالحات الثأرية النهائية بشكل غير مسبوق.